فصل: باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ

- فيه‏:‏ أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ يَا رسول اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ‏)‏، قَالُوا‏:‏ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ‏)‏، قَالُوا‏:‏ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

محمل هذا الحديث عند الفقهاء على الحض والندب على الصدقة، وأفعال الخير كلها، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على كل سلامى من الناس صدقة‏)‏، أى أنهم مندوبون إلى ذلك، فإن قيل‏:‏ كيف يكون إمساكه عن الشر صدقة‏؟‏ قيل‏:‏ إذا أمسك شره عن غيره، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، وإن كان شرًا لا يعدو نفسه، فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم‏.‏

باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً

- فيه‏:‏ أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ‏:‏ بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عِنْدَكُمْ شَىْءٌ‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ لا، إِلا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَاتِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى قدر ما يجوز أن يعطى الإنسان من الزكاة، فذكر ابن القصار عن مالك أنه قال‏:‏ يُعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته وكفاية عياله، ولم يبين مقدار ذلك لمدة معلومة‏.‏

وعندى أنه يجوز أن يعطيه ما يغنيه حتى يجب عليه ما يزكى‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد بين المدة فى رواية على، وابن نافع فى المجموعة، قال مالك‏:‏ يُعطى الفقير قوت سنته، ثم يزيده للكسوة بقدر ما يرى من حاجته‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ أكره أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتى درهم، فإن أعطيته أجزأك‏.‏

وقال المغيرة‏:‏ لا بأس أن يعطيه من الزكاة أقل مما تجب فيه الزكاة، ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة‏.‏

وقال الثورى، وأحمد بن حنبل‏:‏ لا يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهمًا إلا أن يكون غارمًا‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يعطى من الزكاة حتى يغنى، ويزول عنه اسم المسكنة، ولا بأس أن يعطى الفقير الألف، وأكثر من ذلك، لأنه لا تجب عليه الزكاة إلا بمرور الحول‏.‏

وهو قول أبى ثور‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ لا بأس أن يعطى من زكاة غنمه للرجل شاة ولأهل البيت الشاتين، والثلاث، وإذا كثرت الحاجة فلا بأس أن يجمع النفر فى الشاة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هات فقد بلغت محلها‏)‏ أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية، وهو مثل قوله فى لحم بريرة الذى أهدته لعائشة‏:‏ ‏(‏هو عليها صدقة، ولنا هدية‏)‏‏.‏

وقد ترجم لهذا الحديث بعد هذا باب إذا تحولت الصدقة‏.‏

باب زَكَاةِ الْوَرِقِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرَقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ الأوقية اسم لوزن مبلغه أربعون درهمًا كيلاً‏.‏

ولم يجز أن تكون الأوقية على عهد النبى صلى الله عليه وسلم مجهولة القدر، ثم توجب الزكاة فيها، ولا يعلم مقدار وزنها‏.‏

قال‏:‏ وكانت الدراهم غير معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، فجمعها وجعل كل عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كانت الدراهم غير معلومة‏)‏ يريد لم يكن عليها نقش، وإنما كانت قطع فضة غير مضروبة ودراهم من ضرب الروم، فكره عبد الملك ضرب الروم وردَّها إلى ضرب الإسلام‏.‏

فى قوله‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمس أواق صدقة‏)‏ فائدتان‏:‏ إحداهما‏:‏ نفى الزكاة عما دون خمس أواق‏.‏

والثانية‏:‏ إيجابها فى ذلك المقدار، وما زاد عليه بحسابه هذا يوجبه ظاهر الحديث، لعدم النص على العفو فيما بعد الخمس الأواق حتى يبلغ مقدارًا ما، فلما عدم النص فى ذلك وجب القول بإيجابها فى القليل والكثير‏.‏

روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهذا قول النخعى، وعمر بن عبد العزيز، وابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا شىء فيما زاد على الخمس الأواق حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا، فإذا بلغتها كان فيها درهم‏.‏

روى هذا القول عن عمر بن الخطاب، رواه الليث، عن يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وطاوس، وعطاء، والشعبى، ومكحول، وابن شهاب، وإليه ذهب أبو حنيفة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واحتجوا بما رواه عبادة بن نُسى عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره حين بعثه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئًا، إذا بلغ الورق مائتى درهم، أخذ منه خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى تبلغ أربعين‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وعلتُهم من طريق النظر القياس على أوقاص البقر، وما بين الفريضتين فى الإبل والغنم أنه لا شىء فى ذلك، فالواجب أن يكون كذلك كل مال وجبت فيه الصدقة أن لا يكون بين الفريضتين غير الفرض الأول‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بأن قالوا‏:‏ إن عبادة بن نُسى لم يسمع من معاذ شيئًا، وراويه‏:‏ أبو العطوف وهو متروك الحديث، فلا تجوز الحجة به، وعلتهم من طريق النظر القياس على الحبوب والثمار وأن الذهب والفضة معينان مستخرجان من الأرض بكلفة ومؤنة، ولا خلاف بين الجميع أن ما زاد على خمسة أوسق من الحب، وما توصل إليه بمثل ذلك من التمر والزبيب، فيه من الصدقة بحساب ذلك، فالواجب قياسًا أن يكون مثله كل ما وجبت فيه الصدقة مما استخرج من الأرض بكلفة ومؤنة، وهذا القول هو الصواب‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ونقول‏:‏ إن الأموال تختلف بعد إخراج النصاب الأول، فما كان إخراج الزكاة من زيادته لا يشق ويمكن أن يخرج منفصلاً لم يجعل له عفو فيما زاد على النصاب، وما لا يمكن إخراج الحق منه منفصلاً، أو فى وجوب الحق فيه مشقة، لأنه يؤدى إلى الإضرار وسوء المشاركة، ولم يمكن استخلاص حق الفقراء منه إلا بهذه المشقة أُخِّرَ حتى يمكن أخذه منفصلاً، فجعل له نصاب آخر بعد الأول، وأما الدراهم والدنانير والحبوب، فيمكن الأخذ من القليل والكثير منها من غير ضرر للشركة، لاحتمال التجزئة والتبعيض، فاختلف حكمها، وحكم المواشى من هذا الوجه، وقياسهم فاسد، فيما روى عن أبى حنيفة، فى خمسين من البقر مسُنِّة وربع‏.‏

باب الْعَرْضِ فِى الزَّكَاةِ

قَالَ طَاوُسٌ‏:‏ قَالَ مُعَاذٌ لأهْلِ الْيَمَنِ‏:‏ ائْتُونِى بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ، أَوْ لَبِيسٍ فِى الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَأَمَّا خَالِدٌ، فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ‏)‏، فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، فَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ‏.‏

- فيه‏:‏ ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَىْءٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن النّبِىّ صلى الله عليه وسلم خرج إِلى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بالصدقة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى أخذ العروض والقيم فى الزكاة، فقال مالك والشافعى‏:‏ لا يجوز ذلك‏.‏

وجوزه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بما ذكر البخارى من أخذ معاذ للعروض فى الزكاة، وبحديث أنس عن أبى بكر، وقال‏:‏ وكان معاذ ينقل الصدقات إلى المدينة، فيتولى رسول الله قسمتها، فإن كانت هذه الصدقة نقلها إلى المدينة فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم فقسمها بين فقراء المدينة، فلا محالة أنه قد أقره على جواز أخذ البدل فى الزكوات، لأنه قد علم صلى الله عليه وسلم أن الزكوات ليس فيها ما هو من جنس الثياب، وأنها لا تؤخذ إلا على وجه البدل، فصار إقراره له على فعله دلالة على الجواز، وإن كان بعد موته فقد وضعها أبو بكر بحضرة الصحابة فى مواضعها مع علمهم أن الثياب لا تجب فى الزكاة، فصار ذلك إقرارًا منهم على جواز أخذ القيم، فتحصل للمسألة اتفاق بين الصحابة، قالوا‏:‏ وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم بإخراج بنت لبون، عن بنت مخاض، ويزيد المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، وهذا على طريق القيمة، قالوا‏:‏ وإذا جاز أن يخرج عن خمس من الإبل شاة وهو من غير الجنس، جاز أن يخرج دينارًا عن الشاة‏.‏

واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب، أنه كان يأخذ العروض فى الزكاة ويجعلها فى صنف واحد من الناس، ذكره عبد الرزاق، عن الثورى، عن ليث، عن رجل حدثه عن عمر، ولهذا المذهب احتج البخارى، على كثرة مخالفته لأبى حنيفة، لكن اتباع الأحاديث قاده إلى موافقته‏.‏

وقول البخارى‏:‏ فجعلت المرأة تلقى خرصها وسخابها فلم يخص الذهب والفضة من العروض‏.‏

وموضع الحجة منه أن السخاب ليست من فضة ولا ذهب‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ السخاب‏:‏ قلادة من قرنفل أو غيره، والجمع‏:‏ سُخُب‏.‏

ومن حلى النساء‏:‏ الوَقْف، وهو من عاج وذَبْل، ما لم يكن من فضة ولا ذهب، فهو من العروض‏.‏

فأراد البخارى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ذلك كله، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى باب من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده‏.‏

واحتج المخالفون لهذا المذهب بأن قالوا‏:‏ حديث معاذ خاص له لحاجة علمها بالمدينة، رأى أن المصلحة فى ذلك، وقامت الدلالة على أن غيره لا يجوز له أخذها، قالوا‏:‏ وكذلك أخذ عمر العروض على وجه التطوع لا على صدقة الفريضة، وقالوا فى حديث أنس‏:‏ أنه لم يعمل به أهل المدينة، ولا أمر أبو بكر ولا عمر به السعاة، فوجب تركه لمعنى علموه‏.‏

واحتج بحديث معاذ من أجاز نقل الصدقة إلى بلد آخر غير البلد الذى جُبيت فيه وستأتى هذه المسألة بعد هذا فى باب ‏(‏أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء‏)‏، إن شاء الله‏.‏

ووقع فى هذا الباب فى قول معاذ‏:‏ ائتونى بعرض ثياب خميص بالصاد، والصواب فيه بالسين، كذلك فسره أبو عبيد، وأهل اللغة‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الخميس والمخموس‏:‏ ثوب طوله خمسة أذرع‏.‏

وذكره أبو عبيد، عن الأصمعى، وقال‏:‏ عن أبى عمرو الشيبانى إنما قيل له‏:‏ خميس، لأن أول من أمر بعمله ملك من ملوك اليمن يقال له‏:‏ الخمس‏.‏

فنسب إليه، واستشهد بقول أعشى بن قيس يصف نبات الأرض‏:‏ يوما تَراها كشِبْه أَرْدِيِةَ ال خِمْسِ ويومًا أَدِيمها نَغِلا وقال الطبرى‏:‏ فى قولهم‏:‏ ‏(‏مخموس‏)‏ يدل أنه مما جاء مجىء ما يصرف من الأشياء التى أصلها مفعول إلى فعيل مثل جريج أصله‏:‏ مجروح، وقتيل أصله‏:‏ مقتول‏.‏

باب لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ

وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ ثُمَامَةُ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقال مالك فى الموطأ‏:‏ تفسير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يجمع بين متفرق‏)‏ وهو أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة، قد وجب على كل واحد منهم فى غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك، وتفسير قوله‏:‏ ‏(‏ولا يفرق بين مجتمع‏)‏ أن الخليطين يكون لكل واحد منهم مائة شاةٍ وشاةٌ، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا أظَلَّهُما المُصَدِّق، فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة فنهوا عن ذلك‏.‏

فقيل‏:‏ لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وإنما يعنى بذلك أصحاب المواشى‏.‏

وهو قول الثورى، وكذلك قال الأوزاعى‏:‏ هو خطاب لرب المال، وذلك أن يفترق الخلطاء عند قدوم المصدق، يريدون به بخس الصدقة‏.‏

قال‏:‏ ويصلح أن يراد به الساعى يجمع بين مفترق ليأخذ منهم أكثر مما عليهم اعتداء، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، قالا‏:‏ المراد به رب المال والساعى، فإذا كان لرجل مائة وعشرون شاة، فلا يفرقها أربعين أربعين، ليأخذ ثلاث شياه منها، لأن فيها مجتمعة شاة واحدة، فنهى الساعى عن ذلك‏.‏

‏(‏ولا يجمع بين متفرق‏)‏ رجل له مائة شاة وشاة، وآخر له مثلها، فإذا تركا على افتراقهما، كان فيها شاتان، وإذا جمعا كان فيها ثلاث شياه، وكذلك أصحاب الماشية يكون لرجلين أربعون شاة، فإذا جاء المصدق فَرَّقَاها على نفسين أو ثلاثة، فلا يكون فيها شىء، ولو تركت كان فيها شاة، أو يكون لثلاثة أربعون أربعون فإذا جاء المصدق جمعوها فتصير لواحد، فيأخذ منها شاة، فهذا لا يحل لرب المال، ولا للساعى‏.‏

قال الشافعى‏:‏ والخشية‏:‏ خشية الساعى أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة، وليس واحد منهما أولى بالخشية من الآخر، فأمر أن يقر كل على حاله إن كان مجتمعًا صَدَّق مجتمعًا، وإن كان مفترقًا صَدَّق مفترقًا‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا يجمع بين متفرق‏)‏ أن يكون بين الرجلين أربعون شاة، فإن جمعاها صارت فيها شاة واحدة، ولو فرقاها عشرين عشرين لم يكن فيها شىء‏.‏

قالوا‏:‏ ولو كانا شريكين متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما‏.‏

قال‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏لا يفرق بين مجتمع‏)‏ أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة، ففيها شاة واحدة، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ففيهما ثلاث شياه، فنهى عن ذلك‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا يجمع بين متفرق‏)‏ أن يكون للرجل ثمانون شاة، فإذا جاء المصدق، قال‏:‏ هى بينى وبين إخوتى لكل واحد منا عشرون فلا زكاة فيها، أو يكون له أربعون ولإخوته أربعون أربعون، فيقول‏:‏ هذه كلها لى، وليس فيها إلا شاة واحدة، فهذه خشية الصدقة، لأن الذى يؤخذ منه يخشى الصدقة‏.‏

قال‏:‏ ويكون وجه آخر أن يجىء المصدق إلى ثلاثة إخوة، لواحد منهم عشرون ومائة شاة فعليه شاة فيقول‏:‏ هذه بينكم، لكل واحد أربعون فأنا آخذ منها ثلاث شياه لكل أربعين شاة، أو يكون لهم جميعًا أربعون شاة، فلا يكون عليهم زكاة، فيقول المصدق‏:‏ هذه لواحد منكم فأنا آخذ منها شاة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الخلطاء فى الصدقة كغير الخلطاء، لا يجب على كل واحد منهما فيما يملك إلا مثل الذى يجب عليه لو لم يكن خليطًا كالذهب والفضة والزرع، ولا يغير سنة الزكاة خلط أرباب المواشى بعضها ببعض‏.‏

قال الطبرى وغيره‏:‏ وما تأوله أبو حنيفة وأصحابه تسقط معه فائدة الحديث، لأن نهيه صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين مفترق ويفرق بين مجتمع، إنما أراد به‏:‏ لا يجمع أرباب المواشى ولا المصدق بين المواشى المفترقة بإفراق الأرباب، ولا يفرقوا بين المواشى المجتمعة بخلط أربابها بينها، وأراد صلى الله عليه وسلم إقرار الأموال المفترقة والمختلطة على ما كانت عليه قبل لحوق الساعى، ولا يتحيل بإسقاط صدقة بتفريق ولا جمع، ولو كان تفريقها مثل جمعها فى الحكم ما أفاد ذلك فائدة ولا نهى عنه، وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهى عنه، ولولا أن ذلك معناه لما كان لتراجع الخليطين بالتسوية بينهما معنى معقول، لأنهما إذا كانا يصدقان وهما خليطان صدقة المفردين لم يجب لأحدهما قبل صاحبه بسبب ما أخذ منه من الصدقة تباعة ولا تراجع، فلا يجوز أن يخاطب النبى صلى الله عليه وسلم أمته خطابًا لا يفيدهم معنى‏.‏

وفى أمره صلى الله عليه وسلم الخليطين بالتراجع بينهما بالسوية صحة القول بأن صدقة الخلطة صدقة الواحد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يتراجعان بينهما‏)‏ يقتضى أن يكونا اثنين، وهذا لا يجىء على مذهب أبى حنيفة بوجه‏.‏

قال الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏التى فرض رسول الله‏)‏ معناه‏:‏ قدرها وبينها، وأصل الفرض‏:‏ القطع، ومنه أخذ فرض النفقات، وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تفرضوا لهن فريضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏، ومثله فرض الجند، وهو ما يقطع لهم من العطاء‏.‏

قال‏:‏ وإنما تأولناه على فرض التقدير دون فرض الإيجاب والإلزام؛ لأن فرض الزكاة قد لزم بالكتاب فوقعت به الكفاية، وإنما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما هو بيان لها‏.‏

باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ

قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ‏:‏ إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلا يُجْمَعُ مَالُهُمَا‏.‏

وقال سُفْيَانُ‏:‏ لا يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً‏.‏

- فيه‏:‏ قَالَ ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ‏)‏‏.‏

قال ابن أبى زيد‏:‏ قال بعض العلماء من أصحابنا‏:‏ الخليط فى الغنم الذى لا يشارك صاحبه فى الرقاب ويخالطه فى الاجتماع والتعاون، والشريك المشارك فى الرقاب، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكًا‏.‏

قال الله تعالى فى الخلطاء من غير شركة‏:‏ ‏(‏وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ الآية‏.‏

وفى أول القصة‏:‏ ‏(‏إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ومن المجموعة، وكتاب ابن المواز وغيره عن مالك‏:‏ الخليط الذى غنمه من غنم صاحبه، والذى لا يعرف غنمه هو الشريك، وله حكم الخليط فى الزكاة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ الذى لا أشك فيه أن الخليطين الشريكان إذا لم يقتسما الماشية‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأما قول طاوس وعطاء‏:‏ ‏(‏إذا علم الخليطان مالهما فلا يجمع مالهما‏)‏، فهى غفلة منهما، إذ غير جائز أن يتراجعا بالسوية والمال بينهما لا يَعرف أحدُهما ماله من مال صاحبه‏.‏

واختلفوا فى ما يوجب الخلطة، فقال مالك‏:‏ إذا كان الراعى واحدًا والفحل واحدًا والمراح واحدًا فهم خلطاء، وأن افترقوا فى المبيت والحلاب، قال ابن القصار‏:‏ فذكر مالك ثلاثة أوصاف، وقال مالك فى كتاب ابن المواز‏:‏ إذا كان الفحل واحدًا، والراعى واحدًا، والمراح واحدًا فهم خلطاء‏.‏

وإن كان بعض هذه يجزئ من بعض‏.‏

قال أشهب‏:‏ ما لم يفترقا فى الأكثر‏.‏

وقاله ابن القاسم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وكان الأبهرى يقول‏:‏ إن اجتمع وصفان أيهما كان صحت الخلطة‏.‏

وحكى عن بعض شيوخه أنه كان يراعى وصفًا واحدًا وهو الراعى، قال‏:‏ لأنه كالإمام الذى يتميز به حكم الجماعة من حكم الانفراد‏.‏

وقال أشهب فى المجموعة‏:‏ لا تكون خلطة بوصف واحد‏.‏

وعند الشافعى‏:‏ لا يكونان خليطين إلا بأربعة أوصاف‏:‏ المسرح، والمبيت، والحوض، والفحل، فمتى أخل بشرط من هذا لم تكن خلطة، وزكى كل واحد زكاة نفسه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والصحيح عندى أن الخلطة تصح بشرطين، ولكن يراعى فيها أكثر ما يدخل الرفق والترفيه على الخليطين، وإذا كان الراعى واحدًا ترفها فى الأجرة، فليس من يرعى لواحد كمن يرعى لاثنين، وإذا كان الفحل واحدًا فكذلك، وإذا كان السقى من حوض، أو بئر يحتاج إلى من يعالجه فكذلك، ففى الغالب أن الأغنام إذا خرجت إلى المسرح لا تكاد تخلو من الاجتماع فى وصف ما، فإذا زاد عليه وصف آخر فيه رفق، وترفيه حصلت الخلطة‏.‏

وعند أبى حنيفة وأصحابه أن الخلطة لا تغير حكم الانفراد فلم تراع أوصافها، وإنما دفع أبو حنيفة الخلطة، والله أعلم السلام‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمس ذود صدقة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ولا فيما دون أربعين من الغنم شىء‏)‏ ورأوا أن الخلطة تغير هذا الأصل، فلم يقولوا بها، ولم يراع مالك مرور الحول كله على الخلطاء، فإذا خالطه قبل حلول الحول بشهر، أو بشهرين فهو عنده خليط‏.‏

والشافعى يراعى مرور الحول كله عليهما‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وعلة مالك أن الرفاهية بالخلطة قد حصلت، ونقصان الزكاة وزيادتها يعتبر بآخر الحول‏.‏

وقبل ذلك لم يكن من أهل الزكاة‏.‏

وقال مالك‏:‏ فى الخليطين لا يزكيان وكاة الواحد حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، فحينئذ يترادان على كثرة الغنم وقلتها، فإن كان لأحدهما دون النصاب لم يؤخذ منه شىء، ولم يرجع عليه صاحبه بشىء‏.‏

وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور‏.‏

وقال الليث، والشافعى، وأحمد‏:‏ عليهما الزكاة، ولو لم يكن لكل واحد منهما نصاب‏.‏

واحتج الشافعى فقال‏:‏ لما لم أعلم خلافًا إذا كان ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة أن عليهم فيها شاة واحدة وأنهم يصدقون صدقة الواحد فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء، لو تفرق كل واحد منهم لم يجز إلا أن يقال‏:‏ لو كانت أربعون بين ثلاثة رجال كان عليهم شاة، لأنه لما غيرت الخلطة أصل الفريضة فوجب فى الأربعين ثلث شاة وجب أن يغير النصاب، فيكون النصاب بينهم نصاب الواحد كما تكون زكاة الواحد، قال‏:‏ وبهذا أقول فى الزرع أيضًا، فلو أن حائطًا كان حبسًا على مائة إنسان لم يخرج إلا عشرة أوسق أخذت منه صدقة كصدقة الواحد، واحتج مالك بقوله‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمس ذود صدقة‏)‏ وقول عمر فى سائمة الغنم‏:‏ ‏(‏إذا بلغت أربعين ففيها شاة‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فغير جائز أن يوجب فيما نفى النبى أن تكون فيه الصدقة صدقة، لأن ذلك لو جاز جاز لآخر أن يبطل الصدقة فيما أوجبها فيه فأبطلنا الصدقة فيما أبطلها فيه صلى الله عليه وسلم، وجعلنا حكم الخليطين حكم الواحد فيما لم تبطل فيه الصدقة، وإنما الخليطان اللذان عناهما النبى صلى الله عليه وسلم من كان فى غنمه ما تجب فيه الزكاة‏.‏

قال مالك فى كتاب ابن المواز‏:‏ وإنما يتراد الخليطان بقدر العدد لا بقدر ما يلزم الواحد فى الانفراد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة‏.‏

قال غيره‏:‏ وذلك أن يكون لأحدهما أربعون شاة وللآخر ثمانون، فعلى صاحب الثمانين ثلثا شاة، وعلى صاحب الأربعين ثلث شاة، ولو كان لأحدهما خمسون وللآخر أربعون، لكان على صاحب الخمسين خمسة أتساع شاة، وعلى الآخر أربعة أتساعها‏.‏

باب زَكَاةِ الإبِلِ

ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا‏؟‏‏)‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، لأنه لو كان بعده لقال له‏:‏ لا هجرة بعد الفتح، ولكنه صلى الله عليه وسلم علم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة لشدتها ولأوائها ووبائها، ألا ترى قلة صبر الأعرابى الذى استقاله بيعته حين مسته حُمّى المدينة، فقال للذى سأله عن الهجرة‏:‏ إذا أديت الزكاة، التى هى أكبر شىء على الأعراب، ثم منحت منها وجبتها يوم ردها من ينتظرها من المساكين، فقد أديت المعروف، من حقوقها فرضًا وفضلاً، فاعمل من وراء البحار، فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل للبيعة، لأنه قد شرط عليه ما يخشى من منع العرب الزكاة التى بها افتتنوا بعد النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الهبات فى باب المنحة، فقال فيه‏:‏ ‏(‏فهل تمنح منها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فهل تحلبها يوم وردها‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏)‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا‏.‏

والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذى سأله عن الهجرة‏:‏ ‏(‏إن شأنها لشديد، فهل لك من إبل‏)‏‏؟‏ ولم يوجب عليه الهجرة‏.‏

قال أبو عبيد فى كتاب الأموال‏:‏ كانت الهجرة على أهل الحاضرة، ولم تكن على أهل البادية‏.‏

وسيأتى شىء من الكلام فى الهجرة فى باب لا هجرة بعد الفتح فى كتاب الجهاد، إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لن يَتِرَك‏)‏ يعنى لن ينقصك، يقال‏:‏ وتره يتره ترة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يتركم أعمالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏ ومثله‏:‏ ‏(‏لا يلتكم من أعمالكم شيئًا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ يعنى لن ينقصكم‏.‏

وفيه لغتان‏:‏ ألت يألت ألتًا، ولات يليت ليتًا، عن اليزيدى‏.‏

باب مَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ

- فيه‏:‏ ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عنده صَدَقَة بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏(‏من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده‏)‏، فلم يأت ذكره فى هذا الحديث، وذكر فى باب العرض فى الزكاة، وهذه غفلة من البخارى، رحمه الله، قال فيه‏:‏ ‏(‏ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعند ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شىء‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى المال الذى لا توجد فيه السن التى تجب، ويوجد دونها أو فوقها، فكان النخعى يقول بظاهر هذا الحديث‏:‏ إذا أخذ سنًا فوق سن رد عليهم عشرين درهمًا، أو شاتين، وإذا أخذ سنًا دون سن ردوا عليه عشرين درهمًا أو شاتين‏.‏

وهو قول الشافعى، وأبى ثور‏.‏

وفيها قول ثان، روى عن على بن أبى طالب‏:‏ أن يرد عشرة دراهم أو شاتين‏.‏

وهو قول الثورى‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ وهو أن تؤخذ قيمة السن التى تجب عليه‏.‏

وهو قول مكحول، والأوزاعى‏.‏

وفيها قول رابع‏:‏ قال أبو حنيفة‏:‏ تؤخذ قيمة السن الذى وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليهم فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها، وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهمًا ولا غيرها وجوز أخذ ابن اللبون مع وجود بنت المخاض إذا كانت قيمتهما واحدة‏.‏

وقال مالك‏:‏ على رب المال أن يبتاع للمصدق السن التى تجب عليه ولا ضير فى أن يعطيه بنت مخاض عن بنت لبون، ويزيد ثمنًا، أو يعطى بنت لبون عن بنت مخاض، ويأخذ ثمنًا‏.‏

وقال ابن القاسم فى المجموعة‏:‏ لا ينبغى أن يعطى أفضل، ويأخذ ثمنًا، أو أدنى ويؤدى ثمنًا، فإن ترك أجزأه‏.‏

وقال ابن المواز‏:‏ قال ابن القاسم، عن مالك فيمن عليه شاة فى خمس ذود فدفع فيها دراهم، قال‏:‏ لولا خوفى أن يدخل فيه الظلم لم أر به بأسًا، ثم رجع فقال‏:‏ لا يدفع إلا شاة، فإن دفع دراهم أجزأه، وبه أخذ ابن القاسم، وقاله سحنون‏.‏

قال أشهب فيمن أدى قيمة صدقته أو أجبره المصدق على ذلك‏:‏ أنه يجزئه إذا تعجله، للخلاف فيه‏.‏

وحجة مالك فى منعه أخذ القيم فى الزكاة أنه من ابتياع الصدقة عنده‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ أخذ مالك فى ذلك بكتاب عمر بن الخطاب فى الصدقة، وفيه‏:‏ ‏(‏فى خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين‏:‏ بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين‏:‏ ابنة لبون، وفيما فوق ذلك إلى ستين‏:‏ حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين‏:‏ جذعة، وفيما فوق ذلك إلى تسعين‏:‏ ابنتا لبون، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة‏:‏ حقتان طروقتا الفحل، فإن زاد على ذلك ففى كل أربعين‏:‏ ابنة لبون، وفى كل خمسين حقة‏)‏‏.‏

ولم يأخذ مالك بحديث أنس، عن أبى بكر، ولا وجد العمل عليه بالمدينة، وأخذ بكتاب عمر فى الصدقة، وهو معروف مشهور عندهم بالمدينة‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ ومن منع أخذ القيم فى الزكاة فاحتج بأن ذلك من ابتياع الصدقة فليست بحجة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد أجاز للمعرى ابتياع عريته، وهى صدقة تَمْر إلى الجداد، فاجتمع فى هذا إجازة ابتياع الصدقة وبيع التمر بالتمر نسيئة إذ لم يكن بد من ذلك للضرر الداخل على المعرى، فكذلك أخذ القيم جائز، وهى أخف من العرية لضرورة استهلاك حق المساكين فى ماله‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إذا لم يجد السن، وأخذ غيرها، وجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا، فليس ذلك من ابتياع الصدقة، لأن الصدقة لم تتعين فيبتاعها، وإنما هى معدومة مستهلكة، فعليه قيمة المستهلك فى إبله من جنس إبله أو غير جنسها، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم أوجب فى خمس من الإبل شاة وليست من جنسها، وقال فى الخليطين‏:‏ فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، والتراجع لا يكون إلا بالتقويم وأخذ العوض‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ لما جعل النبى صلى الله عليه وسلم للمصدق إذا وجبت فى الإبل سن، ولم يجدها ووجد دونها أن يأخذ ما وجد ويلزمه دراهم أو غيرها، وإن وجد عنده فوق السن أن يأخذها، ويرد عليه قيمة ذلك دراهم أو غنمًا، وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإنه إن لم يكن بيعًا وشراء فنظير للبيع والشراء، وذلك لأن البيع إنما هو إزالة ملك مالك إلى غيره بعوض، فكذلك المعطى ابنة مخاض وعشرين درهمًا، أو شاتين مكان ابنة لبون لا شك أنه يعتاض بدراهمه فضل ما بين ابنة مخاض، وابنة لبون، التى هى صدقة ماله، وأكثر العلماء على القول بحديث أنس، أو بعضه، ولم أجد من خالفه كله غير مالك ابن أنس‏.‏

باب زَكَاةِ الْغَنَمِ

- فيه‏:‏ ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ‏:‏ ‏(‏بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِى أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ، فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ- يَعْنِى سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ- فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا أَرْبَعٌ مِنَ الإبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإبِلِ، فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فى سَائِمَتِهَا، إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِى كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِى الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏فما دونها من الغنم‏)‏ يريد أن من الغنم يصير أخذ الزكاة إلى أربع وعشرين، وليس فى شىء من زكاة الإبل خلاف بين العلماء إلا فى قوله‏:‏ ‏(‏فإذا زادت واحدة على عشرين ومائة‏)‏، فإن مالكًا اختلفت الرواية عنه، فروى عنه ابن القاسم، وابن عبد الحكم أن الساعى بالخيار بين أن يأخذ ثلاث بنات لبون، أو يأخذ حقتين على ما يراه صلاحًا للفقراء، وهو قول مطرف، وابن أبى حازم، وابن دينار، وأصبغ، وقال ابن القاسم‏:‏ فيها ثلاث بنات لبون، ولا يخير الساعى، إلا أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة، وابنتا لبون‏.‏

وهذا قول الزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور‏.‏

وروى عبد الملك، وأشهب، وابن نافع، عن مالك أن الفريضة لا تتغير عن الحقتين بزيادة واحدة حتى تزيد عشرًا فيكون فيها بنتا لبون وحقة، وهو مذهب أحمد، قال عبد الملك عن مالك‏:‏ إنما يعنى بقوله فى الحديث فيما زاد على عشرين ومائة، يريد زيادة تحيل الأسنان، ولا تزول عن الحقتين إلى ثلاثين ومائة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى‏:‏ إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة، فيكون فى خمس شاة، وفى عشر شاتان، فإذا صارت مائة وأربعين من الإبل ففيها حقتان وأربع شياه، فإذا بلغت مائة وخمسة وأربعين ففيها حقتان، وبنت مخاض كما كان فى ابتداء الإبل، فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت استأنفت الفرائض كما استأنفت فى أولها‏.‏

وأما وجه قول مالك فى أن الساعى بالخيار، فلأن النبى صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ ‏(‏فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففى كل خمسين حقة‏)‏ كان فى المائة حقتان بإجماع، فللمصدق أخذها من رب الماشية إذا كانت الزيادة على ذلك قبل أن تبلغ خمسًا وعشرين لا شىء فيها بإجماع، وله أيضًا أن يأخذ ثلاث بنات لبون لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا زادت على عشرين ومائة، ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة‏)‏ كان فى المائة حقتان، فله إذا كان ذلك أن يتخير أفضل المنزلتين لأهل الحاجة‏.‏

قاله الطبرى‏.‏

قال غيره‏:‏ ووجه قول ابن شهاب الذى اختاره ابن القاسم، فلأن أصل العبادات لما كانت مبنية على الاحتياط، وكان اسم الزيادة يقع على الواحد كان من الاحتياط للزكاة أن يتغير الحكم فى العشرين ومائة إذا زادت واحدة فتنتقل عن حكم الحقتين إلى حكم الثلاث بنات لبون، وهذا أحوط، ويعضده رواية الزهرى، عن سالم، عن أبيه، قال‏:‏ إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون‏.‏

وكذلك فى كتاب الصدقات لعمرو بن حزم، وقول مالك أقيس، لأن الواحدة من الإبل لا تغير حكم الزكاة فى الأحوال التى تقع زكاتها منها، وإنما هو لغو، ولو غيرت حكمها، ونقلتها من حال إلى حال لوجب أن تؤخذ الزكاة من الواحدة الزائدة كما تؤخذ من العشرين ومائة، فيكون فى كل أربعين وثلث ابنه لبون، ولا يؤخذ من ستين ومائة أربع بنات لبون، لأنها لا تبلغ أربعين وثلثًا، فلما أجمعوا أن هذا لا يجوز دل أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة‏)‏ إنما أراد الزيادة التى تجمع بحلولها فى المال الحقة وبنات اللبون، لا ما سواها‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ووجه رواية عبد الملك عن مالك ما رواه محمد بن عبد الرحمن الأنصارى، أن عمر بن عبد العزيز طلب كتاب النبى صلى الله عليه وسلم وكتاب عمر فى الصدقة، وفيه‏:‏ ‏(‏فإذا بلغت عشرين ومائة فليس فيما زاد فيها مما دون العشرة شىء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، ففيها بنتا لبون وحقة إلى أن تبلغ أربعين ومائة، ففيها حقتان وبنت لبون‏)‏‏.‏

فهذا الخبر مفسر، وفى خبر أنس زيادة مبهمة ومحتملة للواحدة والعشر، ولا ينتقل عن الحقتين إلا بدليل، وفى زيادة العشر تنتقل بيقين، لأن فى ظاهر الخبر ذكر السنين لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين بنت لبون‏)‏، فيحتاج إلى فريضة تجمع الأمرين جميعًا‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ اختلفت الأخبار فى ذلك، فروى ما يوافق كل طائفة فمن شاء أخذ بقول من شاء منهم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ أما قول أبى حنيفة أن الفريضة تستأنف، فهو خلاف حديث أنس عن أبى بكر، وهو المعول عليه فى هذا الباب، وفيه‏:‏ ‏(‏فإذا زادت على عشرين ومائة ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة‏)‏ ولم يخص زيادة من زيادة، ولا ذكر استئناف الغنم، وكذلك فى رواية الزهرى عن سالم، عن أبيه، وفى كتاب عمر بن الخطاب، وهذه جملة الأخبار المعمول عليها، وهى مخالفة لقول أبى حنيفة، قال‏:‏ وأما صدقة الغنم، فلا شىء فيها حتى تبلغ أربعين إلى عشرين ومائة، ففيها شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وهذا إجماع، وإذا زادت واحدة على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففى كل مائة شاة، وهذا قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وجماعة أهل الأثر، وهو قول على، وابن مسعود، وروى عن النخعى أنه قال‏:‏ إذا كانت الغنم ثلاثمائة وشاة، ففيها أربع شياه، وإذا كانت أربع مائة شاة، ففيها خمس شياه، وبه قال الحسن بن صالح، وهذا القول مخالف للآثار المرفوعة فى ذلك، فلا وجه له‏.‏

وأجمعوا على أن الزكاة فى السائمة من الإبل والبقر والغنم‏.‏

والسائمة‏:‏ هى الراعية، واحتج مالك على ذلك بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن شجر فيه تسيمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 10‏]‏ يقول‏:‏ فيه ترعون‏.‏

واختلفوا فى العوامل، فقال مالك والليث‏:‏ فى العوامل والمعلوفة الزكاة كهى فى السوائم، وهو قول مكحول، وعمر بن عبد العزيز، والزهرى، وروى عن على ومعاذ أنه لا زكاة فيها، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة قائل هذه المقالة القياس على إجماع الجميع ألا صدقة فى العروض التى هى لغير التجارة، لأن أهلها اتخذوها للزينة والجمال لا لطلب الربح فيها بالتجارة، فكذلك حكم عوامل المواشى مثلها لا صدقة فيها، وإنما تجب الصدقة فيما يتخذ منها للنتاج والنسل وارتفع عن أهلها مئونة علفها بالسوم‏.‏

وفى حديث أنس‏:‏ ‏(‏فى سائمة الغنم الصدقة‏)‏، وكذلك فى كتاب عمر بن الخطاب فى ‏(‏الموطأ‏)‏، فدليله أن غير السائمة لا شىء فيها، فكذلك سائمة الإبل والبقر‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فى كل خمس ذود من الإبل شاة‏)‏، ولم يخص سائمة من عاملة، وكذلك قال فى الغنم فى كتاب عمرو بن حزم فى الصدقة‏:‏ ‏(‏فى كل أربعين شاة‏)‏ ولم يخص، وأيضًا فإن العوامل سائمة فى طبعها وخلقتها، وسواء رعت، أو أمسكت عن الرعى، السوم صفة لازمة لها، كما يقال‏:‏ ما جاءنى من إنسان ناطق، والنطق من حد الإنسان اللازم له سواء سكت أو نطق، قال‏:‏ وأيضًا فإن المؤنة التى تلزم فى المعلوفة لا مدخل لها فى إسقاط الزكاة أصلاً، وإنما لها مدخل فى التخفيف والتثقيل، كالعشر ونصف العشر فى زكاة الحرث، فإذا لم يدخل التخفيف فى العوامل لأجل المؤنة بقيت الزكاة على ما كانت عليه، لأن النماء موجود فى السائمة من الدر والنسل والوبر والحمل على ظهورها، وقد قال يحيى بن سعيد وربيعة‏:‏ لم تزل إبل الكراء تزكى عندنا بالمدينة‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن عاصم بن ضمرة قد روى عن الحارث، عن على أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏ليس فى العوامل شىء‏)‏، ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قيل‏:‏ عاصم والحارث ضعيفان، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرسل، وأصحاب الشافعى لا يقولون بالمراسيل‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ومن سئل فوقها فلا يعط‏)‏ يتأول على وجهين‏:‏ أحدهما ألا يعطى الزيادة، والآخر ألا يعطى شيئًا من الصدقة، لأنه إذا طلب فوق الواجب كان خائنًا، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وفى الرقة ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شىء‏)‏ يعنى تسعين ومائة درهم، لأن نصاب الورق الذى تجب فيه الزكاة خمس أواق، وهو مائتا درهم، لأن الأوقية أربعون درهمًا، وقد تقدم بيان ذلك‏.‏

باب لا تُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ

- فيه‏:‏ ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَلا يُخْرَجُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ‏)‏‏.‏

عامة الفقهاء على العمل بهذا الحديث، ويذهبون إلى أن المأخوذ فى الصدقات العدل كما قال عمر بن الخطاب، وذلك عدل بين غثاء المال وخياره، قال مالك فى المجموعة‏:‏ والتيس من ذوات العوار وهو دون الفحل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إلا أن يشاء المصدق‏)‏ فمعناه عند مالك والشافعى‏:‏ أن تكون الهرمة، وذوات العوار، والتيس خيرًا للمساكين فى سمنها، أو ثمنها من التى أخرج إليه صاحب الغنم، فأخذ ذلك باجتهاده، والعَوار بفتح العين‏:‏ العيب كله، والعُوار بضم العين‏:‏ ذهاب العين الواحدة‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ جعل النبى المشيئة إلى المصدق فى أخذ ذلك وتركه، فالواجب عليه أن يعمل بما فيه الصلاح لأهل الصدقة ورب الماشية بما يكون عدلاً للفريقين، فيأخذ ذلك إذا كان فى تركه، وتكليف رب الماشية غيرها مضرة عليه، وذلك أن تكون الغنم كلها هرمة، أو جرباء، أو تيوسًا، ويكون فى تكليفه صاحبها غيرها مضرة عليه، فيأخذ منها أو يترك أخذ ذلك إذا كانت الماشية فتية سليمة إناثًا كلها أو أكثرها، فيأخذ منها السليمة من العيوب، وذلك عدل، إن شاء الله، على الفريقين‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد اختلف قول مالك إذا كانت عجافًا كلها أو معيبة أو جرباء أو تيوسًا، فقال فى المدونة‏:‏ لا يأخذ منها ويلزم صاحبها أن يأتى بما يجوز صحيحة غير معيبة‏.‏

وذكر ابن المواز أن عثمان بن الحكم سأل مالكًا عن الساعى يجدها عجافًا كلها‏؟‏ قال‏:‏ يأخذ منها ولو كانت ذات عوار كلها، أو تيوسًا فليأت بغيرها‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك، قال‏:‏ لا تؤخر الصدقة، وإن عجفت الغنم، قال سحنون، وهو قول المخزومى، وابن الماجشون، ومطرف، وذكر ابن المنذر، عن أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى‏:‏ إذا كانت جرباء كلها أخذ منها، قال الشافعى‏:‏ لأنى إذا كلفتُهُ صحيحة فقد أوجبتُ عليه أكثر مما وجب عليه، ولم توضع الصدقة إلا رفقًا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب الأموال‏.‏

وروى عن أبى حنيفة فى المعيبة أنها تؤخذ‏.‏

وقد اختلف أهل العلم فيما عدا ما ذكر فى هذا الحديث مما لا يجوز للمصدق أخذه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال للساعى‏:‏ عُدّ عليهم البهيمة، حتى تعد السخلة يحملها الراعى على يده ولا يأخذها‏.‏

وهو قول مالك فى المدونة‏.‏

وجماعة من العلماء لا يجوزون أخذ السخال وذوات العيوب والهرمة ما وجدوا فى الغنم الثنية والجذعة، وسأذكر اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وقال أبو عبيد‏:‏ غرا الإبل السخال الصغر، واحدها‏:‏ غرى‏.‏

قال غيره‏:‏ هو ولد الضائنة إذا وضعته أمه ذكرًا كان أو أنثى، وهو بَهْمَة وبهم أيضًا‏.‏

باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِى الصَّدَقَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ بِالْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ العناق‏:‏ ولد الماعز إذا أتى عليه أربعة أشهر وفصل عن أمه وقوى على الرعى فهو جدى، والأنثى‏:‏ عناق، والجمع‏:‏ عنوق وعنق، فإذا أتى عليه الحول فالذكر تيس، والأنثى عنز، ثم يكون التيس جذعًا فى السنة الثانية، ثم ثنيا فى الثالثة‏.‏

وقال أشهب وابن نافع‏:‏ الجذع فى الضأن والمعز ابن سنة، وهو الذى يجوز فى الصدقة‏.‏

وعلى هذا جماعة العلماء إلا النخعى والحسن، والكوفيين، فإنهم قالوا‏:‏ لا تؤخذ الجذعة فى الصدقة‏.‏

واختلف أهل العلم فى أخذ العناق فى الصدقة والسخال والبهم إذا كانت الغنم كذلك كلها، أو كانت الإبل فصلانًا والبقر عجولاً كلها‏.‏

قال مالك‏:‏ عليه فى الغنم شاة جذعة، أو ثنية، وعليه فى الإبل والبقر ما فى الكبار منها‏.‏

وهو قول زفر، وأبى ثور‏.‏

وقال أبو يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق‏:‏ يؤخذ منها إذا كانت صغارًا من كل صنف واحد منها‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى، ومحمد‏:‏ لا شىء فى الفصلان، ولا فى العجول، ولا فى صغار الغنم لا منها، ولا من غيرها، ذكره ابن المنذر، وذكر عنهم خلافه فقال‏:‏ كان أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، ويعقوب، ومحمد، والشافعى، وأحمد بن حنبل، يقولون‏:‏ فى أربعين عجلاً مسنة‏.‏

وعلى هذا القول هم موافقون لقول مالك‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فى كل أربعين شاة شاة‏)‏، والشاة‏:‏ اسم يختص بالكبير فى غالب العرف، فدل أن الواجب فيها شاة لا سخلة، وأيضًا قول عمر بن الخطاب‏:‏ اعدد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم‏.‏

وهذا يدل أنها تُعَدَّ، كانت أمهاتها باقية، أو قد عدمت‏.‏

ومن الحجة لأبى حنيفة فى قوله للذى لم يوجب فى الصغار شيئًا‏:‏ إذ لم يجز أخذ السخلة من أربعين شاة، كذلك لا يؤخذ من أربعين سخلة شىء فيقال له‏:‏ هذا لا يلزم لأننا لا نأخذ سخلة من الكبار ولا من الصغار، وإنما نأخذ السن المجعول، فكما نأخذ شاة من أربعين كبارًا، كذلك نأخذ شاة من أربعين صغارًا‏.‏

فإن احتج من أجاز أخذ الصغار إذا كانت صغارًا كلها بقول الصديق‏:‏ ‏(‏والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله‏)‏، فدل أنها تؤخذ فى الصدقة، قيل‏:‏ تأويل قوله‏:‏ ‏(‏يؤدونها‏)‏ أى يؤدون عنها ما يجوز أداؤه ويشهد لصحة هذا قول عمر‏:‏ ‏(‏اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها‏)‏، وإنما خرج قول الصديق على التقليل و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏، ألا ترى أنه روى‏:‏ ‏(‏لو منعونى عقالاً‏)‏ وقد اختلف فى تفسيره على ما تقدم فى أول كتاب الزكاة‏.‏

ومذهب مالك أن نصاب الغنم يكمل بأولادها كربح المال سواء، وذلك مخالف عنده لما أفاد منها بشراء أو هبة، أو ميراث لا يكمل منه النصاب، ويستأنف به حولاً، وإن كان عنده نصاب، ثم استفاد بغير ولادة زكاة مع النصاب، وهو قول أبى حنيفة، وقال الشافعى‏:‏ لا يضم نتاج الماشية إلا إلى النصاب، ولا يكمل به النصاب‏.‏

باب لا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِى الصَّدَقَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، تؤخذ من أغنيائِهِم وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ‏)‏‏.‏

وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى أول كتاب الزكاة، وقد احتج أصحاب الشافعى لمذهبه فى أن السخال يؤخذ منها ما يؤخذ فى الكبار بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وتوق كرائم أموال الناس‏)‏، قال‏:‏ فإذا لم يملك كريم مال فلا يكلف سواه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ويقال له‏:‏ وكذلك أيضًا نهى عن أخذ الدون، وكلف الوسط، وليس إذا كلف الوسط كلف كريم ماله، ألا ترى أنا نرفه رب المال إذا كانت غنمه كرامًا كلها رُبَّى مواخض ولوابن، وشاة اللحم، والفحل، فلا نأخذ منها، فكذلك نرفه الفقراء بأن لا نأخذ الصغيرة، ونأخذ السن المجعول، وهذا هو العدل بينهم وبين أرباب المواشى، كما قال عمر، رضى الله عنه‏.‏

باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ ذهب قوم إلى أن الذود جمل واحد، وإلى أنه جمع، والذى عندى أن الذود ما بين الثلاث إلى العشر، وهو أول اسم جماعات الإبل، ولو كان الذود واحدًا ما جاز أن يقال‏:‏ خمس ذود، كما لا يقال‏:‏ خمس ثوب، وخمس درهم، ولكان الوجه أن يقال‏:‏ خمسة أذواد و‏:‏ خمسة أثواب‏.‏

وقال أبو حاتم السجستانى‏:‏ قالوا تاركين لقياس الجميع‏:‏ ثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود، كما قالوا‏:‏ ثلاثمائة وأربعمائة إلى تسعمائة والقياس ثلاث مئين، أو مئات‏.‏

وقد قالوا‏:‏ أذواد كثيرة فى العشر، ولا يكادون يقولون‏:‏ ثلاث مئين، والفقهاء يقولون‏:‏ الذود جمل واحد، ولا يعرف ذلك أهل اللغة وقد سمى الله الزكاة صدقة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وأجمع أهل العلم على أن ما دون خمس ذود من الإبل لا صدقة فيها، وأن فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شباه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس عشرين بنت مخاض، وهذا أول نصاب يؤخذ فيه من الإبل على ما جاء فى كتاب أبى بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصدقة، وقد تقدم فى زكاة الورق، وستأتى صدقة الحبوب والطعام فى موضعها، إن شاء الله‏.‏

باب زَكَاةِ الْبَقَرِ

وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو ذَرٍّ، انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ، مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لا يُؤَدِّى حَقَّهَا إِلا أُتِىَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث دليل على وجوب زكاة البقر، وسائر الأنعام من أجل الوعيد الذى جاء فيمن لم يؤد زكاتها‏.‏

أما مقدار نصاب زكاة البقر، ومقدار ما يؤخذ منها فهو فى حديث معاذ بن جبل، وهو متصل مسند من رواية معمر والثورى، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن مسروق، عن معاذ بن جبل، أن النبى صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة‏)‏، وكذلك فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، وفى كتاب الصدقات لأبى بكر، وعمر، وعلى ذلك مضى الخلفاء، وعليه عامة الفقهاء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، وفى ذلك شذوذ لا يلتفت إليه، روى عن ابن المسيب، والزهرى، وأبى قلابة فى كل خمس من البقر شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا جاوزت فبقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا جاوزت ففى كل أربعين بقرة بقرة‏.‏

وروى عن أبى قلابة أنه قال‏:‏ فى كل خمس شاة إلى أن تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع، واعتل قائلوا هذه المقالة بحديث لا أصل له رواه حبيب بن حبيب، عن عمرو بن هرم، أنه فى كتاب عمرو بن حزم، وحجتهم من طريق النظر أن النبى صلى الله عليه وسلم قد عدلها بالإبل، إذ جعل الواحدة منها تجزئ عن سبعة فى الهدايا والضحايا كما تجزئ الإبل، فإذا كانت تعادلها فزكاتها زكاة الإبل‏.‏

قالوا‏:‏ وخبر معاذ منسوخ بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى عماله الذى رواه عمرو بن هرم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وحديث عمرو بن هرم واه غير متصل، ولا يجوز الاحتجاج بمثله فى الدين والمعروف فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم فى الصدقة لآل عمرو بن حزم خلاف ذلك، وجماعة الفقهاء على أنه لا شىء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد، وسئل أبو حنيفة، فقال‏:‏ ما زاد على الأربعين من البقر فبحسابه، ففى خمسة وأربعين مسنة وثُمُن، وفى خمسين مسنة وربع، وعلى هذا كل ما زاد أقل أو كثر، هذا هو المشهور عن أبى حنيفة، وقد روى أسد بن عمرو، عن أبى حنيفة مثل قول الجماعة، ولا نقول إلا قولهم، لأنهم الحجة على من خالفهم، وفى حديث معاذ أنه قال‏:‏ ‏(‏لم يأمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأوقاص بشىء باب فضل الزَّكَاةِ عَلَى الأقَارِبِ

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَهُ أَجْرَانِ‏:‏ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَلَمَّا نْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ‏:‏ ‏(‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ‏(‏وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ‏)‏، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ‏:‏ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فقَالَتْ‏:‏ يَا رسول اللَّه، إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِى حُلِىٌّ لِى، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ من روى مال رايح بالياء فمعناه‏:‏ يروح عليه أجره كلما أطعمت الثمار، ومن روى رابح بالباء، فمعناه‏:‏ ذو ربح، وذلك أن صاحبه وضعه موضح الربح يوم القيامة، وقال الخطابى‏:‏ وقوله‏:‏ رابح، أى ذو ربح، كقولك‏:‏ ناصب، أى ذو نصب‏.‏

قال النابغة‏:‏ كِلينى لهَمٍّ يا أميمةَ نَاصِبِ والرايح‏:‏ القريب المسافة، الذى يروح خيره، ولا يعزب نفعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بخ‏)‏ كلمة إعجاب، وقد تخفف وتثقل، فإذا كررت فالاختيار أن تنون الأول وتسكن الثانى، وهكذا هو فى كل كلام مثنى، كقولهم‏:‏ صهٍ صهْ، وطابٍ طابْ، ونحوهما، وقال الأحمر‏:‏ فى بخ أربع لغات‏:‏ الجزم، والخفض، والتشديد، والتخفيف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وإن أحب أموالى إلى بيرحاء‏)‏ فيه من الفقه‏:‏ حب الرجل الصالح للمال، وقد قال أبو بكر لعائشة‏:‏ ما أحد أحب إلى غنى منك، ولا أعز على فقرًا منك‏.‏

وفيه‏:‏ إباحة دخول أجنة الإخوان، والشرب من مائها، والأكل من ثمارها بغير إذنهم إذا علم أن أَنْفُسَ أصحابها تطيب بذلك، وكان مما لا يتشاح فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الصدقة إذا كانت جزلة أن صاحبها يمدح بها ويغبط لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بخ، ذلك مال رابح‏)‏ فسلاه صلى الله عليه وسلم بما يناله من ربح الآخرة، وما عوضه الله فيها عما عجله فى الدنيا الفانية‏.‏

وفيه‏:‏ أن ما فوته الرجل من حميم ماله، وغبيط عقاره عن ورثته بالصدقة أنه يستحب له أن يرده إلى أقاربه غير الورثة، لئلا يفقد أهله نفع ما خوله الله عز وجل وفى كتاب الله ما يؤيد هذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏ فثبت بهذا المعنى أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس إذا كانت صدقة تطوع، ودل على ذلك حديث زينب امرأة ابن مسعود‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم لها‏:‏ ‏(‏لك أجران‏:‏ أجر القرابة والصدقة‏)‏ وقال لميمونة حين أعتقت جارية لها‏:‏ ‏(‏أما إنك لو أعطيتها لأخوالك كأن أعظم لأجرك‏)‏ واستعمل الفقهاء الصدقة الفريضة فى غير الأقارب لئلا يصرفوها فى ما يجرى بين الأهلين من الحقوق والصلات والمرافق، لأنهم إذا جعلوا الصدقة الفريضة فى هذا المعتاد بين الأهلين، فكأنهم لم يخرجوها من أموالهم إلا لانتفاعهم بها، وتوقير تلك الصلات بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزكاة للأقارب الذين لا تلزمهم نفقتهم‏.‏

وقد تقدم اختلاف العلماء فى الزكاة على الأقارب فى باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر فأغنى عن إعادته، ولم يختلف العلماء أن قوله‏:‏ ‏(‏فى أقاربه وبنى عمه‏)‏ أنهم أقارب أبى طلحة لا أقارب النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى ذلك الثقات، حدثنا بعض مشايخنا، قال‏:‏ حدثنا أبو عمرو الباجى، قال‏:‏ حدثنا أبى، قال‏:‏ حدثنا محمد بن فطيس، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى، حدثنا أبى، حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس أنه قال‏:‏ ‏(‏كانت لأبى طلحة أرض فجعلها لله، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏اجعلها فى أقاربك، فجعلها لحسان، وأُبى بن كعب، قال أنس‏:‏ وكانا أقرب إليه منى‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ استعمال عموم اللفظ، ألا ترى إلى فهم الصحابة لذلك، وأنهم لم يتوقفوا حتى يتبين لهم بآية أخرى، أو بسنة مبينة لمراد الله تعالى فى الشىء الذى يجب أن ينفقه عباده، لأنهم يحبون أشياء كثيرة، فبدر كل واحد منهم إلى نفقة أحب أمواله إليه، فتصدق أبو طلحة بحائطه، وكذلك فعل زيد بن حارثة، وروى ابن عيينة، عن ابن المنكدر، قال‏:‏ ‏(‏لما نزلت‏:‏ ‏(‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏، قال زيد‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه ليس لى مال أحب إلىّ من فرسى هذه، وكان له فرس، فجاء به إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هذا فى سبيل الله‏.‏

فقال لأسامة بن زيد‏:‏ ‏(‏اقبضها منه‏)‏، فكأن زيدًا وجد فى نفسه من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قد قبلها منك‏)‏‏.‏

وفعل مثل ذلك ابن عمر، روى أنه كانت له جارية جميلة كان يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم اتبعتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من نفسه، روى الثورى أن أم ولد الربيع بن خثيم، قالت‏:‏ كان إذا جاءنا السائل يقول لى‏:‏ يا فلانة، أعط السائل سكرًا؛ فإن الربيع يحب السكر‏.‏

قال سفيان‏:‏ يتأول‏)‏ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ‏(‏، وفى هذا الحديث فقه من معانى الصدقات والهبات، سيأتى فى موضعه، إن شاء الله‏.‏

باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ صَدَقَةٌ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

وترجم له باب ‏(‏لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى عَبْدِهِ صَدَقَةٌ‏)‏، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فيه‏:‏ ‏(‏فِى عَبْدِهِ‏)‏‏.‏

اتفق جمهور العلماء على أنه لا زكاة فى الخيل، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهو قول الشعبى، والنخعى، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصرى، والحكم، والثورى، ومالك، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وخالف الجماعة أبو حنيفة وزفر، فقالا‏:‏ فى كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها، وأعطى من كل مائتى درهم خمسة دراهم‏.‏

ومن حجتهما ما رواه جويرية، عن مالك، عن الزهرى، أن السائب بن يزيد أخبره، قال‏:‏ لقد رأيت أبى يقوّم الخيل، ثم يدفع صدقتها إلى عمر‏.‏

واحتجوا بحديث أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الخيل، فقال‏:‏ ‏(‏هى لثلاثة‏:‏ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما التى هى له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملاً، ولم ينس حق الله فى ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها‏)‏‏.‏

رواه سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة‏.‏

فاحتج عليهم أهل المقالة الأولى، فقالوا‏:‏ لا حجة لكم فى رواية جويرية، لأن عمر لم يأخذ ذلك منهم على أنه واجب عليهم، وقد بين السبب فى ذلك ما رواه مالك فى الموطأ أن أهل الشام، قالوا لأبى عبيدة بن الجراح‏:‏ خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ذلك، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأبى، ثم كلموه أيضًا، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر‏:‏ إن أَحَبُّوا فخذها منهم، وارددها عليهم، وارزق رقيقهم، وفى إباء عمر، وأبى عبيدة من أخذ الزكاة منهم دليل واضح أنه لا زكاة فيها، ولو كانت واجبة ما امتنعًا من أخذ مال أوجبه الله تعالى لأهله ووضعه فيهم‏.‏

وروى معمر عن أبى إسحاق أنه قال‏:‏ لما ألحوا على أبى عبيدة وألح أبو عبيدة على عمر، قال‏:‏ هذا شىء لم يفعله اللذان كانا قبلى، ولكن انتظروا حتى أشاور المسلمين، فشاور عمر الصحابة فى ذلك، فقال له على بن أبى طالب‏:‏ لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، فأخذها لبذلهم لها، وطوعهم بها، لا بوجوبها عليهم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فدل هذا الحديث أن ما أخذ عمر منهم لم يكن زكاة، ألا ترى قوله‏:‏ إن للذين كانا قبلى، يعنى رسول الله، وأبا بكر، لم يأخذا من الخيل صدقة، ولم ينكر على عمر ما قال من ذلك أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ودل قول علىّ لعمر‏:‏ لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، أن عمر إنما أخذ ذلك لسؤالهم إياه، وأن لهم منع ذلك متى أحبوا، ثم سلك عمر بالعبيد فى ذلك مسلك الخيل، ولم يدل ذلك أن العبيد الذين لغير التجارة يجب فيهم الصدقة، وإنما كان ذلك على التبرع من مواليهم بإعطاء ذلك، والأمة مجمعة أنه لا زكاة فى العبيد غير زكاة الفطر إذا كانوا للقِنْيَةِ، فإن كانوا للتجارة فالزكاة فى أثمانهم، ويلزم تقويمهم كسائر العروض التى للتجارة‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولم ينس حق الله فى ظهورها‏)‏، فإنه يجوز أن يكون ذلك الحق حقًا سوى الزكاة، فإنه روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فى المال حق سوى الزكاة‏)‏، وتلا‏:‏ ‏(‏ليس البر أن تولوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ إلى آخر الآية، فلما رأينا المال قد جعل الله فيه حقًا سوى الزكاة، احتمل أن يكون ذلك الحق هو الذى فى الخيل أيضًا، وحجة أخرى أن الزكاة فى الحديث الذى روى عن أبى هريرة إنما هو فى الخيل المرتبطة لا فى الخيل السائمة، وحجة أخرى أنا رأينا رسول الله ذكر الإبل السائمة أيضًا، فقال‏:‏ ‏(‏فيها حق أيضًا، فسئل عن ذلك الحق ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحة سمينها‏)‏‏.‏

حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما كانت الإبل فيها حق سوى الزكاة احتمل أن يكون كذلك فى الخيل، وحديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس على المسلم فى عبده ولا فرسه صدقة‏)‏ الحجة القاطعة فى ذلك‏.‏

فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الذين يوجبون فيها الزكاة لا يوجبونها حتى تكون ذكورًا وإناثًا، ويلتمس صاحبها نسلها، ولا تجب الزكاة فى ذكورها خاصة، ولا فى إناثها خاصة، وكانت الزكوات المتفق عليها فى المواشى السائمة تجب فى الإبل والبقر والغنم ذكورًا كانت كلها أو إناثًا، فلما استوى حكم الذكور فى ذلك خاصة، وحكم الإناث خاصة، وحكم الذكور والإناث، وكانت الذكور من الخيل خاصة، والإناث منها خاصة، لا تجب فيها زكاة كان كذلك فى النظر الذكور منها والإناث إذا اجتمعت لا تجب فيها زكاة‏.‏

وقال الطحاوى، والطبرى‏:‏ والنظر أن الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع ألا صدقة فيها، ورد المختلف فيه إلى المتفق عليه إذا اتفقا فى المعنى أولى‏.‏

باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا‏)‏، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ‏؟‏ فَسَكَتَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ‏:‏ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَلا يُكَلِّمُكَ‏؟‏ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ السَّائِلُ‏)‏‏؟‏ فَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ لا يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حِنْطًا، أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ، وَبَالَتْ، وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ- أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ احتج قوم بهذا الحديث فى تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه، بل هو حجة عليهم، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله به من إنفاقه فى حقه، وإذا كسبوه من غير وجهه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يأتى الخير بالشر‏)‏ يعنى المال إذا كسب من وجهه وفعل به ما أمرهم الله، ثم ضرب لهم مثلاً بقوله‏:‏ ‏(‏وإن مما ينبت الربيع يقتلُ أو يُلِمُّ‏)‏ يعنى أن الاستكثار من المال والخروج من حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مسقم، ضرب هذا مثلاً للحريص على جمع المال، المانع له من حقه، والربيع تنبت فيه أحرار الشعب التى تَحْلَوْلَيْهَا الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها فتهلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أو يلم‏)‏ يعنى يقرب من الهلاك، يقال‏:‏ ألم الشىء‏:‏ قرب، والرحضاء‏:‏ عرق الحمى، وقد رحض ورحضت الثوب‏:‏ غسلته، وقوله‏:‏ ‏(‏إلا آكلة الخضر‏)‏ يعنى التى تخرج مما جمعت منه ورعت ما ينفعها إخراجه من البراز والبول، فهذا لا يقتلها ما رعت، فضرب هذا صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن تصدق، وأخرج من ماله ما ينفعه إخراجه مما لو أمسكه لضره إثمه كما يضر التى رعت لو أمسكت البول والغائط ولم تخرجه، وبين هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم فى المال‏:‏ ‏(‏فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين وابن السبيل‏)‏، وفى هذا تفضيل للمال‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ الخضر ليس من أحرار البقول التى تسكثر منها الماشية فتنهكه أكلا، ولكن من الجنبة التى ترعاها بعد هيج الشعب ويبسه، وأكثر ما رأيت العرب تقول‏:‏ الخضر لما اخضر من الكلأ الذى لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منه سنًا سنًا، فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه، وقد ذكره طرفة، وبين أنه ينبت فى الصيف فقال‏:‏ كبَنَات المَخْرِ يَمْأَدْنَ إذا أَنْبَتَ الصيف عَسَالِيجَ الخَضِرْ والخضر من كلأ الصيف، وليس من أحرار بقول الربيع، والنعم لا تستوبله، ولا تحبط بطونها عليه، وأما قوله‏:‏ ‏(‏وإن هذا المال خضرة‏)‏، فإن العرب تسمى الشىء الحسن المشرق خضرًا تشبيهًا بالنبات الأخضر الغض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا منه خضرًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ ومنه قولهم‏:‏ اختضر الرجل، إذا مات شابًا، لأنه يؤخذ فى وقت الحسن والإشراق، يقول‏:‏ إن المال يعجب الناظرين إليه، ويحلو فى أعينهم، فيدعوهم حسنه إلى الاستكثار منه، فإذا فعلوا ذلك تضرروا به كالماشية إذا استكثرت فى المرعى ثلطت والثلط‏:‏ السلح الرقيق‏.‏

قال ابن الأنبارى‏:‏ قوله- عليه السلام-‏:‏ ‏(‏إن هذا المال خضرة حلوة‏)‏ يدل أن المال يؤنث، وقال غيره‏:‏ ليس بتأنيث، لأن قوله‏:‏ ‏(‏خضرة حلوة‏)‏ لم يأت على الصفة، وإنما أتى على التمثيل والتشبيه، كأنه قال‏:‏ إن هذا المال كالبقلة الخضرة الحلوة، ونقول‏:‏ إن هذا السجود حسنة، والسجود مذكر، فكأنه قال‏:‏ السجود فعلة حسنة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه‏:‏ جواز ضرب الأمثال فى الحكمة، وإن كان لفظها بالبراز والبول والكلام الوضيع، وفيه‏:‏ جواز اعتراض التلميذ على العالم فى الأشياء المجملة حتى يفسر له ما يبين معناها، وفيه‏:‏ دليل على أن الاعتراض إذا لم يكن موضعه بيّنًا أنه منكر على المعترض به، ألا تراهم أنكروا على السائل، وقالوا له‏:‏ تكلم النبى، ولا يكلمك‏؟‏ إلا أن قوله‏:‏ ‏(‏أين السائل‏)‏‏؟‏ فكأنه حمده، يدل أن من سأل العالم وباحثه عما ينتفع به، ويفيد حكمه أنه محمود من فعله‏.‏

وفيه‏:‏ أن للعالم إذا سئل أن يمطل بالجواب حتى يتيقن أو يطلع المسألة عند من فوقه من العلماء، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى سكوته عنه حتى استطلعها من قبل الوحى، وفيه‏:‏ أن المكتسب للمال من غير حله غير مبارك له فيه، لقوله‏:‏ ‏(‏كالذى يأكل ولا يشبع‏)‏ لأن الله تعالى قد رفع عنه البركة، وألقى فى قلوب آكليه ومكتسبيه الفاقة، وقلة القناعة، ويشهد لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحق الله الربا ويربى الصدقات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏ فالمحق أبدًا فى المال المكتسب من غير الواجب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يكون شهيدًا عليه يوم القيامة‏)‏ يعنى، والله أعلم، أنه يمثل له ماله شجاعًا أقرع، ويأتيه فى صورة تشهد عليه بالخيانة، لأنه آية معجزة، ولا أكبر شهادة من المعجزات، وفيه‏:‏ أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وينبههم على مواضع الخوف من الافتتان به، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن مما أخشى عليكم‏)‏ فوصف لهم ما يخاف عليهم، ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة، وهى إطعام المسكين واليتيم وابن السبيل، وقد جاء عن النبى أن الصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب، وسأذكره فى باب فضل من يعول يتيمًا، فى كتاب الأدب، إن شاء الله‏.‏

باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأيْتَامِ فِى الْحَجْرِ

قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- فيه‏:‏ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْن مسعود، أنها كَانَتْ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِى حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ‏:‏ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِى حَجْرِى مِنَ الصَّدَقَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ سَلِى أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِى، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا‏:‏ سَلِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِى، وَأَيْتَامٍ لِى فِى حَجْرِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ‏:‏ أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِىَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِى أَبِى سَلَمَةَ، إِنَّمَا هُمْ بَنِىَّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْفِقِى عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء أن الرجل لا يعطى زوجته من الزكاة، لأن نفقتها تجب عليه، وهى غنية بغناه، واختلفوا فى المرأة هل تعطى زوجها من الزكاة‏؟‏ فأجاز ذلك أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأبو ثور، وأبو عبيد، وجوزه أشهب إذا لم يرجع إليها شىء من ذلك، ولا جعلته وقاية لمالها فيما يلزم نفسها من مواساته، وتأدية حقه، فإن رجع إليها شىء من ذلك لم يجزئها‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا تعطى المرأة زوجها من زكاة مالها‏.‏

وهو قول أبى حنيفة‏.‏

واحتج من جوز ذلك بحديث زينب امرأة ابن مسعود، وقالوا‏:‏ جائز أن تعطيه من الزكاة، لأنه داخل فى جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، وأيضًا فإن كل من لا يلزم الإنسان نفقته فجائز أن يضع فيه الزكاة، والمرأة لا يلزمها النفقة على زوجها، ولا على بنيه قال المهلب‏:‏ والدليل على أن المرأة لا تلزمها النفقة على بنيها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج عليهم أهل المقالة الثانية، فقالوا‏:‏ إن تلك الصدقة التى فى حديث زينب إنما كانت من غير الزكاة، وقد بين ذلك ما رواه الليث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله، عن رائطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود، وكانت امرأة صناع وليس لعبد الله بن مسعود مال، فكانت تنفق عليه، وعلى ولده منها، فقالت‏:‏ لقد شغلتنى والله أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق معكم بشىء، فسألت رسول الله هى وهو، فقالت‏:‏ يا رسول الله، إنى امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لزوجى ولا لولدى شىء، فشغلونى فلا أتصدق، فهل لى فيهم أجر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لك فى ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقى عليهم‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ففى هذا الحديث أن تلك الصدقة لم تكن زكاة، ورائطة هذه هى زينب امرأة عبد الله، لا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها فى زمن رسول الله، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من عمل يدها، وقد أجمعوا أنه لا يجوز أن تنفق على ولدها من زكاتها، فلما كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة، فكذلك ما أنفقت على زوجها ليس من الزكاة، وقد روى أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حدثنا فهد، حدثنا على بن معبد، حدثنا إسماعيل بن أبى كثير الأنصارى، عن عمر بن نبيه الكعبى، عن المقبرى، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة الصبح يومًا، فأتى على النساء فى المسجد، فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بعقول ذوى الألباب منكن، إنى رأيتكن أكثر أهل النار، فتقربن إلى الله ما استطعتن‏)‏‏.‏

وكان فى النساء امرأة ابن مسعود، فانصرفت إلى ابن مسعود، فأخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت حليًا لها، فقال ابن مسعود‏:‏ أين تذهبين بهذا الحلى‏؟‏ فقالت‏:‏ أتقرب به إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن لا يجعلنى من أهل النار‏.‏

قال‏:‏ هلمى ويلك، تصدقى به عَلىَّ وعلى ولدى‏.‏

فقالت‏:‏ لا والله حتى أذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به فسألته، فقال‏:‏ ‏(‏تصدقى به عليه، وعلى بنيه، فإنهم له موضع‏)‏‏.‏

فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أراد بقوله‏:‏ ‏(‏تصدقى‏)‏ صدقة التطوع التى تكفر بها الذنوب، لأنه أمرها بالصدقة بكل الحلى، وذلك من التطوع لا من الزكاة، لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه، وهذا دليل على فساد تأويل أبى يوسف، ومن ذهب مذهبه فقد بطل بما ذكرنا أن يكون فى حديث زينب ما يدل أن المرأة تعطى زوجها من زكاة مالها إذا كان فقيرًا‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِى فِى الْحَجِّ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِى فِى الْمُجَاهِدِينَ، وَالَّذِى لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلا‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ الآيَةَ، فِى أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى لاسٍ حَمَلَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ‏:‏ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهِىَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا‏)‏‏.‏

اختلف أهل العلم فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى الرقاب ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ يجوز أن يشترى من الصدقة رقابا فيعتقهم، وهو قول الحسن ومالك فى المدونة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك‏:‏ لا يشترى إلا مؤمنًا ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين، قال‏:‏ ولا يعطيها المكاتبين، لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فربما عجز فصار عبدًا، وقال أبو حنيفة، والليث، والشافعى‏:‏ لا يجزئ أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ومعنى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى الرقاب ‏(‏هم المكاتبون، وهو قول النخعى، وروى ابن القاسم ومطرف، عن مالك لا بأس أن يُعطى المكاتب ما تتم به كتابته‏.‏

واحتج المخالفون لمالك بأن كل صنف أعطاهم الله الصدقة على سبيل التمليك، فكذلك الرقاب يجب أن يكون المراد به من تملك الصدقة، والعبد لا يملك الصدقة وأيضًا، فإن الله ذكر الأصناف الثمانية، وجمع بين كل صنفين متقاربين فى المعنى، فجمع بين الفقراء والمساكين، وجمع بين العاملين والمؤلفة قلوبهم، لأنهما يستعان بهما إما فى جباية الصدقة، وإما فى معاونة المسلمين، وجمع بين ابن السبيل وسبيل الله، لتقاربهما فى المعنى وهو قطع المسافة، وجمع بين الرقاب والغارمين، فأخذ المكاتب لغرم كتابته كأخذ الغارمين للديون‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى الرقاب ‏(‏وإطلاق الرقاب يقتضى عتق الرقاب فى كل موضع أطلق ذكرها، مثل كفارة الظهار، قال تعالى فيها‏:‏ ‏(‏فتحرير رقبة ‏(‏وكذلك فى اليمين، ولم يرد بذلك المكاتبين، وإنما أراد العبيد، ولو أراد المكاتبين لكان يكفى بذكر الغارمين، لأن المكاتب غارم، فهو داخل فيهم، وشراء العبد أولاً أولى من المكاتب، لأن المكاتب قد حصل له سبب العتق بمكاتبة سيده له، والعبد لم يحصل له سبب عتق، وأيضًا فلو أعطينا المكاتب، فإن تم عتقه كان الولاء لسيده فيحصل له المال والولاء، وإذا اشترينا عبدًا فأعتقناه كان ولاؤه للمسلمين، فكان أولى وأليق بظاهر الآية‏.‏

قال غيره‏:‏ وأما قول الحسن‏:‏ إن اشترى أباه من الزكاة جاز، فينبغى أن يجوز على أصل مالك، لأنه يجيز عتق الرقاب من الزكاة، إلا أنه يكرهه لما فيه من انتفاعه بالثناء عليه بأنه ابن حر، ولا يجوز عند أبى حنيفة والشافعى‏.‏

واختلفوا فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى سبيل الله ‏(‏فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق‏:‏ هم الغزاة، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه، قالوا‏:‏ لا يعطى الغازى إلا أن يكون محتاجًا، وقال مالك والشافعى‏:‏ يعطى وإن كان غنيًا‏.‏

وقال ابن عباس، وابن عمر‏:‏ ‏(‏فى سبيل الله ‏(‏الحجاج، ولا بأس أن يأخذوا من الزكاة‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ من أوصى بثلث ماله فى سبيل الله، فللوصى أن يجعله فى الحاج المنقطع به‏.‏

واحتج بأن رجلاً وقف ناقة له فى سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج وتركبها، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏اركبيها، فإن الحج من سبيل الله‏)‏ فدل أن سبل الله كلها داخلة فى عموم اللفظ، رواه شعبة عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، قال‏:‏ أرسل مروان إلى أم معقل يسألها عن هذا الحديث، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ذكر حديث أبى لاس‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم حملهم على إبل الصدقة للحج‏.‏

وتأول قوله‏:‏ إن خالدًا قد احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله‏)‏ أنه يجوز أن يدخل فيه كل سبل الله‏:‏ الحج، والجهاد، وغيره، وذكر قول الحسن أنه أجاز أن يعتق أباه من الزكاة، ويعطى فى المجاهدين والذى لم يحج، وتلا‏:‏ ‏(‏إنما الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ الآية، قال‏:‏ فى أيها أعطيت أجزأت‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة من قال هم الغزاة، أن كل موضع ذكر فيه سبيل الله، فالمراد منه الغزو والجهاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يقاتلون فى سبيله صفا‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 20‏]‏، فكذلك آية الصدقات‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ لا أعلم أحدًا أفتى بأن تصرف الزكاة إلى الحج، وقال ابن المنذر‏:‏ لا يعطى منها فى الحج، لأن الله قد بيّن من يعطاها، إلا أن يثبت حديث أبى لاس، فإن ثبت وجب القول به فى مثل ما جاء الحديث خاصة، رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبى لاس الخزاعى‏.‏

وأما قول أبى حنيفة‏:‏ لا يعطى المجاهد من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا، فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى سبيل الله ‏(‏فإذا غزا الغنى فأعطى كان ذلك فى سبيل الله، وأما السنة فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة‏:‏ لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز فى سبيل الله، أو مسكين تُصُدِّقَ عليه منها فأهدى منها للغنى‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث أبى هريرة معان منها‏:‏ أن ابن جميل كان منافقًا فمنع الزكاة تربصًا، فاستتابه الله عز وجل فى كتابه، فقال‏:‏ ‏(‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏، فقال‏:‏ استتابنى ربى‏.‏

فتاب وصلحت حاله، وأما العباس فإنه كان استدان فى مفاداة نفسه ومفاداة عقيل، فكان من الغارمين الذين لا تلزمهم الصدقة‏.‏

وقال أبو عبيد فى قوله‏:‏ ‏(‏فإنها عليه ومثلها معها‏)‏ نراه، والله أعلم، أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظر، ثم يأخذها منه بعد، كما أخر عمر بن الخطاب صدقة عام الرمادة، فلما حَيىَ الناس فى العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين‏.‏

وأما الحديث الذى يروى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنا قد تعجلنا من العباس صدقة عامين‏)‏ فهو عندى من هذا أيضًا، إنما تعجل منه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها، ولو لم يقبضها منه، فكانت دينًا على العباس، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فإنها عليه، ومثلها معها‏)‏، وقد روى حجية عن على أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعجل صدقته للمساكين قبل محلها، فأذن له‏.‏

فيكون معنى قوله فهى عليه صدقة، أى فهى عليه واجبة ‏(‏فأداها قبل محلها، ومثلها معها‏)‏ أى قد أداها أيضًا لعام آخر، لأنه قد روى أنها كانت صدقة عامين، وهذا أيضًا معنى رواية من روى ‏(‏فهى عليه‏)‏، ولم يذكر ‏(‏صدقة‏)‏‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ أخبرنى يزيد بن خالد، أن عمر بن الخطاب، قال للعباس لابّان الزكاة‏:‏ وأد زكاة مالك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، فقال‏:‏ أديتها قبل ذلك‏.‏

فذكر ذلك عمر للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏صدق قد أداها قبل‏)‏، وروى ورقاء، عن أبى الزناد‏:‏ ‏(‏فهى علىَّ‏)‏ فالمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤديها عنه برًا به، لقوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه‏)‏‏.‏

‏(‏وأما خالد فإنه احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله‏)‏، فحسب له النبى صلى الله عليه وسلم ذلك عوضًا من الصدقة التى وجبت عليه وخاصَّهُ بها، هذا على من جعل هذه الصدقة صدقة الفريضة، وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ حُدِّثت حديثًا عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله ندب الناس فى الصدقة‏.‏

وذكر الحديث، فيكون على هذا معنى قوله‏:‏ ‏(‏فهى عليه صدقة ومثلها معها‏)‏ يريد أنه سيتصدق بها وبمثلها، لأنه لا يمتنع من شىء ألزمه إياه من التطوع، بل هو يعده كاللازم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وهذا أليق بالقصة، لأنه قد أمر بصدقة فنكرها، وأما عذر خالد فإنه واضح، لأنه من أخرج أكثر ماله وأوقفه فى سبيل الله، لا تحتمل حاله صدقات التطوع، ويكون ابن جميل شح فى التطوع الذى لا يلزمه، ولا يظن بواحد منهم منع الواجب‏.‏

وقد احتج من جعل الصدقة فى حديث العباس صدقة الفريضة بهذا الحديث، فأجاز تعجيل الزكاة قبل محلها، وهو قول النخعى، وقتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهرى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وخالفهم آخرون، وقالوا‏:‏ لا يجوز تعجيل الزكاة قبل محلها، روى ذلك عن عائشة، وابن سيرين، وهو قول مالك والليث، وقالوا‏:‏ هو كالذى يصلى ويصوم قبل الوقت، وروى ابن القاسم، عن مالك‏:‏ أنه لا يجوز تعجيلها قبل الحول إلا بيسير، وقال ابن حبيب‏:‏ قال من لقيت من أصحاب مالك‏:‏ لا تجزئه إلا فيما قرب مثل الخمسة أيام أو العشرة قبل الحول، وقال ابن القاسم‏:‏ الشهر قريب على تزحيف وكره ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والذى شبه الزكاة بالصيام والصلاة فليس بمشبه، وذلك أنه لا خلاف بين جميع السلف والخلف فى أن الصدقة لو وجبت فى ماشية رجل فهرب بها من المصدق فظهر عليه المصدق، فأخذ زكاتها وربها كاره، أنها تجزئ عنه، ولا خلاف بينهم أنه لو امتنع من أداء صلاة مكتوبة فأخذ بأدائها كرها فصلاها، وهو غير مريد قضائها أنها غير مجزئة عنه، فبان بذلك أن الصلاة مخالفة للزكاة فى تعجيلها إذ كانت الصلاة لا تجزئ من لزمته إلا بعمل ببدنه ونيته متقربًا بها إلى الله تعالى‏.‏

والعجب ممن زعم فى الزكاة أنها لا تجزئ عمن قدمها قبل محلها، لأنه متطوع بإعطائها والتطوع لا يجزئ عن الفرائض، وليس كما ظن، لأن الذى يعجله لا يعطيه بمعنى الزكاة، وإنما يعطيه من يعطيه دينًا له عليه على أن يحتسبه عند محله زكاة من ماله، وعلى هذا الوجه كان استسلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من العباس صدقته قبل وجوبها فى ماله، فإن ظن ظان أنه غير جائز له احتسابها من زكاته بعد وجوبها عليه، كما غير جائز له أن يصلى الظهر قبل وقتها على أن يحتسبها ظهرًا إذا دخل وقتها، وأن يصوم شعبان على أن يحتسبه من رمضان بعد دخول رمضان، فقد أفحش الخطأ، وذلك لأن الصلاة والصيام من الفروض التى على من وجبت عليه عملها ببدنه، وليست كذلك الزكاة، لأن الزكاة حق أوجبها الله لأهل الصدقات، فهم شركاء لأرباب الأموال فيها إذا وجبت لهم، فإذا وصلت إليهم حقوقهم منها فقد برئ أربابها سواء أدوا ذلك بأنفسهم، أو أداه عنهم مؤدٍ بأمرهم، أو أخذه منهم آخذ أباح الله له أخذه لأهل السهمان برضى رب المال كان أخذه أو بغير رضاه، والدليل على ذلك مال المعتوه واليتيم يؤدى عنه وليه الزكاة، فيجزئ عنه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن حديث أبى هريرة كان فى جواز تقديم صدقة التطوع، لأنه قال فى الحديث‏:‏ ‏(‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصدقة‏)‏ فنكرها‏.‏

وقال ابن جريج فى الحديث‏:‏ ‏(‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس فى الصدقة‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ قد صح الخبر عن على‏:‏ أن العباس سأل النبى صلى الله عليه وسلم فى تعجيل صدقته قبل وجوبها عليه، فرخص له فى ذلك‏.‏

حدثناه أحمد بن منصور، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن حجاج بن دينار، عن الحكم، عن حجية، عن على، ولا يقال فى التطوع منع إلا من منع صدقة الفريضة‏.‏

وقد اختلفت الرواية فى قوله‏:‏ ‏(‏أدراعه وأعبده‏)‏ فروت طائفة ‏(‏أعبده‏)‏ بالباء، جمع عبد، وروى أبو ذر ‏(‏أعتده‏)‏ بالتاء، جمع عتد، وهو الفرس، وفى كتاب مسلم، وأبى داود ‏(‏أعتاده‏)‏ بالألف، وهذا شاهد بصحة رواية من روى ‏(‏أعتده‏)‏ بالتاء، لأنه لا يقال فى جمع أعبد‏:‏ أعباد، والمعروف من عادة الناس فى كل زمن تحبيس الخيل والسلاح فى سبيل الله لا تحبيس العبيد، وقال صاحب العين‏:‏ فرس عتد وعتيد، أى معد للركوب، وكذلك سميت عتيدة الطيب، وقال غيره‏:‏ الذكر والأنثى فيه سواء، قال سلامة بن جندل‏:‏ بِكُلِّ مُجَنَّب كالسيد نهدٍ وكُلِّ طُوَالةٍ عتيدٍ نزِاق ومما يدل أنه عَتَد بفتح التاء مجيئه للذكر والأنثى بلفظ واحد، وهذا حكم المصادر‏.‏

باب الاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أن نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا يَكُونُ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِىَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى‏)‏، قَالَ حَكِيمٌ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا‏.‏

فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنِّى أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّىَ‏.‏

فى حديث أبى سعيد من الفقه‏:‏ إعطاء السائل مرتين من مال واحد‏.‏

وفيه‏:‏ حجة لمن يعطى الفقير باسم الفقر، وباسم ابن السبيل من مال واحد، كذلك سائر سهام الصدقات وقياسه عندهم الوصايا، يجيزون لمن أوصى له بشى إذا قبضه أن يعطى مع المساكين إن كان ذلك الشىء لا يخرجه عن حد المسكنة، وأبى من ذلك ابن القاسم، وطائفة من الكوفيين‏.‏

وفيه‏:‏ ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرم والسخاء والإيثار على نفسه‏.‏

وفيه‏:‏ الاعتذار للسائل إذا لم يجد ما يعطيه‏.‏

وفيه‏:‏ الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله، وأن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن، ولذلك الجزاء عليه غير مقدر، ولا محدود، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وفى حديث أبى هريرة‏:‏ الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، وأن يمتهن المرء نفسه فى طلب الرزق وإن ركب المشقة فى ذلك، ولا يكون عيالاً على الناس ولا كَلا، وذلك لما يدخل على السائل من الذل فى سؤاله، وفى الرد إذا رد خائبًا، ولما يدخل على المسئول من الضيق فى ماله إن هو أعطى لكل سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏، وكان مالك يرى ترك ما أعطى الرجل على جهة الصدقة أحب إليه من أخذه، وإن لم يسأله‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث حكيم من الفقه‏:‏ أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار، وفيه‏:‏ أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وتخييبه وموعظته، وأمره بالتعفف وترك الحرص على الأخذ كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم بالأنصار وبحكيم حين ألحفوا فى مسألته مرة بعد أخرى، كلما أعطاهم سألوه، فأنجح الله موعظته ومَحَا بِهَا حرص حكيم، فلم يرزأ أحدًا بعده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه‏)‏ يدل أن القناعة وطلب الكفاية والإجمال فى الطلب مقرون بالبركة، وأن من طلب المال بالشره والحرص، فلم يأخذه من حقه لم يبارك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏ فضل المال والغنى إذا أنفق فى طاعة الله، وفيه‏:‏ بيان أن لا يسأله الإنسان شيئًا إلا عند الحاجة والضرورة، لأنه إذا كانت يده سفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الضرورة‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن من كان له عند أحد حق من تعامل أو غيره، فإنه يجبر على أخذه إذا أبى، فإن كان مما لا يستحقه أن لا يبسط اليد إليه، فلا يجبر على أخذه خلاف قول مالك، وإنما أشهد عمر على إباء حكيم، لأنه خشى سوء التأويل عليه، فأراد أن يبرئ ساحته بالإشهاد عليه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا يستحق أخذ شىء من بيت المال إلا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وأما قبل ذلك فليس ذلك مستحق له، ولو كان ذلك مستحقًا لقضى على حكيم بأخذه، وعلى ذلك يدل نص القرآن قال تعالى، حين ذكر قسم الصدقات وفى أى الأصناف تقسم‏:‏ ‏(‏كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره، وإنما قال العلماء فى أسباب الحقوق فى بيت المال تشددًا على غير المَرْضِىّ من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد منهم إلى أموال المسلمين، والتسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنه يقطع، ومن ربَّ الجارية من الفىء أنه يحد، ولو استحقه فى بيت المال أو فى الفىء شيئًا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له ذلك لكانت شبهة يدرأ عنه الحد بها، وجمهور الأمة على أن للمسلمين حق فى بيت المال والفىء، ويقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتى ذلك فى كتاب الجهاد، إن شاء الله‏.‏